أصــل الاســـم : لم يرد أسم ( درنه ) علماً لمدينة أو لموقع فيما كتبه المؤرخون القدامى الذين تحدثوا عن إقليم ( برقة ) قبل منتصف القرن السادس ( ق . م ) أي قبل هجرة الثيريين إلى جزيرة ( بلاتيا ) ( PLATEA ) الواقعة شرقي مدينة ( درنة ) بنحو 60 كيلوميتر وهي ما تسمى الآن ( البمبة ) أو ( خليج البمبة ) . ويرى بعض المؤرخون أن درنة كانت عامرة قبل مجيء الإغريق وكانت تعرف باسم ( إيراسا ) ( IRASA ) واتخذها الليبيون عاصمة لما يسمى ( مرماريكا ) غير أنه لم يذكر شيئاً عن هذه الدولة التي اتخذت إيراسا عاصمة لها لان وجود عاصمة يدل على وجود دولة . ويرى البعض الآخر أن ( إيراسا ) قد تكون هي درنة وقد تكون قرية ( عين مارة ) الواقعة غرب درنة بحوالي ( 20 كيلومتر ) والواقع أن أسم إيراسا قد ورد عند قدوم جماعة ( الثيريين ) إلى ( خليج البمبة ) واستيطانهم بالجهات المجاورة لهذا المكان أول ما نزلوا وقد نشأت بينهم وبين الليبيين من قبيلة ( الجيليغامي ) التي كانت منازلها في هذه البقاع علاقات من التعارف والجوار ، غير أن أبناء هذه القبيلة خشوا أن يقع نظر هؤلاء الوافدين على ( إيراسا ) فيتخذونها لهم موطناً ومقراً ، ورأوا أن يبعدوهم عنها فنصحوهم أن يتحولوا إلى مكان آخر أكثر ملائمة ، فساروا بهم ليلاً حتى اجتازوا هذه البقعة ثم دلوهم على المكان المجاور لنبع ( شحات ) فاستقر بهم المقام هناك ، فكانوا النواة الأولى لازدهار الحضارة الهيلية في الجزء الشرقي من ليبيا. درنة في عهد البطالمة : أول من ذكر اسم درنة هو ( بطوليمس : ويسمى كلوديوس بطيلموس ، وهو من غير أسرة البطالمة الذين حكموا مصر بعد موت الإسكندر ، وانما هو فلكي وجغرافي ظهر في القرن الثاني للميلاد وألف كتاباً في الجغرافيا ) وقد قال في كتابه الرابع ( إن برقة تنتهي شرقاً مع حدود ( مارماريكا ) على السمت من منفذ درنة وشمالاً عند خط طول ( 51.15 ) وعند خط عرض ( 25 ) . وقد كان البطالمة كثيراً ما يسمون المدن التي ينشئونها أو وقعت تحت حوزتهم بأسماء ملوكهم وملكاتهم أو بعض معبوداتهم ، ولم يعرف عن معبود أو حاكم أو ملك أو ملكة من اليونان سواء في عهد اليونان الأول أم في عهد البطالمة يحمل أسم ( دارنس ) مما يرجح أن هذه الاسم ليبي الأصل أبقاه البطالمة على أصله القديم وأضافوا إليه حرف ( S ) الذي هو علامة الرفع للاسم المذكر في اللغة اليونانية . يقول الأستاذ : علي فهمي خشيم في بحث تاريخي له بعنوان ( قراءات ليبية ) : (( أما دارنس فهي مدينة درنة الحالية وهي كلمة ليبية أيضاً ربما تعني ( بين الجبال ) أو (وسط الجبال ) كما هو موقع درنة ، ولا تزال كلمة ( أدرار ) القديمة تعني الجبل ، وتعني كلمة ( الأدورماخيداي ) أهل الجبل أو سكانه )) .. ويستطرد قائلاً .. (( ولقد تتبع بيتس في كتابه الكبير ( الليبيون الشرقيون ) أصول اللغة الليبية القديمة وما بقي منها فوجد كلمة ( إيراسا ) ، والتي ذكر هيرودوت أن اليونان هبطوا فيها قبل ( قورينا ) تعني المهبط أو المرسى )) . وهناك كلمة أكثر وضوحاً وأقرب إلى الدلالة وهي كلمة ( دَرَن ) أو ( دِرِن ) التي تعني الجبل في اللغة القديمة .. هذا وهناك أدلة أخرى تثبت أو ترجح أن درنة اسم من أصل ليبي قديم لا من أصل يوناني منها ورود اسم درنة أو دارنس مقروناً بلفظة ( زيرينا ) ، وهي أما صفة لاسم درنة أو مضاف إليه من اسم ( أزيريوس ) وهو معبود أسطوري مصري قديم انتقلت عبادته إلى الليبيين ، ولاسيما القاطنين في الشق الشرقي من ليبيا .
درنة في العهد الروماني :
انتقل حكم إقليم برقة من أيدي البطالمة – خلفاء الإسكندر إلى أيدي الرومان منذ سنة 96 ق.م وذلك بعد موت ( بطليموس أبيون ) آخر ملوك برقة من البطالمة والذي أوصى قبل موته بأن يكون إقليم برقة تابعاً لروما ، وبذلك أصبحت ليبيا بشقيها الشرقي والغربي ولاية رومانية بيزنطية . أما عن انتشار الديانة المسيحية بين السكان في هذه البقاع وما جاورها بعد اعتناق الرومان لدين السيد المسيح عليه السلام ، فهذه البقعة وما جاورها – يعني درنة وما جاورها – لم تخل من السكان حتى الغزو العربي ، وأنها كانت مقر ( أسقفية ) منذ القرون الأولى من العهد المسيحي ، ومن المحتمل أن المغارات الواقعة في المنطقة الصخرية ، شرقي المدينة والتي لا تزال باقية ، تحمل اسم موضع الصلاة لقدامى المسيحية ، حيث أن هذه المغارات تسمى ( الكنيسية ) وكلمة ( الكنيسية ) مشتقة من أصل لاتيني ( Ecc’sia ) . غير أن المسيحية لم تنشر بصورة عامة في ليبيا إلا في عهد ( يوستينيا نوس ) الذي اعتلى عرش القسطنطينية سنة 533 م ، والذي وجه عناية كبيرة إلى تحصين المدن والقرى ، وغلى تشييد الأديرة والكنائس وخاصة في إقليم برقة ، وحمل السكان ، وحتى اليهود على اعتناق المسيحية ن ونبذ كل عبادة سواها ، غير أن هذا لا ينفي ظهور المسيحية وانتشارها منذ القرون الأولى لظهور المسيحية .. فمثلاً هناك ( سمعان القوريني ) نسبة إلى قورينا ، أو جاء إلى هذه النواحي للتبشير بدين المسيح ، وهناك القديس أو الحواري ( مرقص ) ( سان مارك ) صاحب الإنجيل المسمى باسمه ، والذي أسس أول كنيسة في إقليم برقة على ما يذكره الباحثين والذي ينسب إليه ( وادي مرقص ) الواقع بين مدينة درنة وبلدة سوسة ، وكذلك قدوم جماعة أخرى من الرهبان والقسيسين إلي هذه المناطق يدعون للمسيحية ويتخذون من الكهوف والمغارات أديرة وصوامع للعبادة كما في المغارات الواقعة شرقي درنة المسماة ( الكنيسية ) وكذلك يوجد إلى الجانب الشرقي من هذه الكنيسية بنحو ( 15 كيلومتر ) كهف يسمى ( كهف الراهب ) يجاوره نبع صغير اسمه ( أم عمود ) ويذكر عنه بعض الإيطاليين أن الأطفال كانوا يعمدون فيه ( التعميد أو المعمودية عند النصارى : غمس الطفل في ماء باسم روح الأب والابن وروح القدس ، في اعتقادهم ) ، وعلى الشرق من هذه النبع بحوالي ( 8 كيلومترات ) نبع آخر يسمى ( مراد لوقي ) ، نسبة إلى الحواري ( لوقا ) صاحب الإنجيل المسمى باسمه أو نسبة إلى راهب اسمه ( لوقا ) . وهناك أيضاً ( وادي الإنجيل ) الواقع غربي ( وادي مرقص ) الذي تقدمت الإشارة إليه ( واسقفه ) المجاورة لقرية ( بيت ثامر ) على مسافة ( 40 كيلومتر غرب درنة ) . وينسب بعض المؤلفين الغربيين ومن بينهم ( دي اغستيني ) خراب الأديرة والكنائس وتقلص المسيحية عن هذه البقاع إلى الفتح العربي الذي جلب الإهمال والخراب – بزعمهم – وهي تهمة باطلة ، أرادوا أن يلصقوها بالفتح الإسلامي لهذه الأرض ، وليس أدل على بطلان هذه التهمة من بقاء المسيحية في الأقطار التي فتحها المسلمون ، وحافظوا على ديانة أهلها ، سواء كانوا يهوداً أو نصارى . ثم أن تقلص المسيحية في ليبيا بصفة عامة ، لم يحدث نتيجة للفتح الإسلامي ، وإنما حدث نتيجة لغزو الوندال لهذه البلاد ، حيث حملوا على أهلها على ترك النصرانية ، بطريق العنف تارة واللين أخرى ، كما عاثوا في الأديرة فساداً وتخريباً ، ولم ينقذ المسيحيين من تسلط أولئك الوندال إلا الليبيين أنفسهم بقيادة ( كاباون اللواتي ) ، الذي تصدى لمحاربة الوندال وانتصر عليهم وأباد جموعهم ، فلم ينج منهم إلا القليل ، وهذا يبرئ المسلمين من تلك التهمة التي الصقها بهم أولئك المتعصبون من الكتاب والمؤرخين الذين يحاولون تبرئة بحوثهم ودراساتهم من التعصب الديني والقومي . درنة بعد الفتح الإسلامي :
لم يبرز اسم درنة في تاريخ الفتح الأول لأقطار المغرب ، إذ أن أهل برقة قد صالحوا قائد الفتح الأول ( عمرو بن العاص ) على جزية قدرها ثلاثة عشر ألف دينار ، يقدمونها لبيت المال في مصر كل عام .
ولقد ظل إقليم برقة منذ الفتح الأول إلى عهد ( عبد الله بن أبي سرح ) آمناً مطمئناً باقياً على عهده مع ولاة مصر ، باقياً مع عهده مع مصر ومكث فترة طويلة لا يدخله جابي خراج ، طبقاً لشروط الصلح ، التي عقدت مع عمرو بن العاص .
وفي الثلث الأخير من القرن الهجري الأول ، برز اسم درنة ، حيث استشهد القائد ( زهير بن قيس البلوي ورفاقه المجاهدون من الصحابة والتابعين ، ودفنوا جميعاً بدرنة .
استشهاد زهير بن قيس البلوي ورفاقه في مدينة درنة :
جاء ( زهير بن قيس البلوي ) إلى بلاد المغرب غازياً مجاهداً وأبلى في معارك الجهاد والفتح بلاءً حسناً ، وساهم في تلك الانتصارات الباهرة التي أحرزتها الجيوش الفاتحة ، بجانب ما اشتهر به من التقوى والورع ، وقد صحب عقبة بن نافع ( والي طرابلس وأفريقية ( تونس )) في غزواته ببلاد المغرب وعرف عقبة صدق زهير في جهاده وحسن بلاءه ، فجعله في مقدمة جيشه ولما استشهد عقبة سنة ( 63 هـ ) ، عزم زهير على مواصلة القتال وخالفه حنش بن عبد الله الصنعاني ، وكان من أصحاب الرأي والنفوذ في الجيش ، فعزم زهير على العودة إلى مصر بعد هذا الخلاف ، وتتبعه كثير من الناس غير انه لم يواصل رحيله إلى مصر ، فعرج بمن معه على إقليم برقة ، وأقام بها مرابطاً كما فعل ( عقبة بن نافع ) من قبل إذ أن الرباط باب من أبواب الجهاد .
هذا ولما وصلت أنباء مقتل عقبة وأصحابه إلى ( عبد الملك بن مروان ) استشار أهل الرأي فيمن يأخذ بثأر عقبة ، ويتولى قيادة الجيش من بعده ، فأشاروا عليه بأن ينتدب (زهير بن قيس ) ، إذ هو صاحب عقبة واعرف الناس بسيرته وأولاهم بأخذ ثأره ، وكتب عبد الملك بن مروان إلى زهير في برقة ، يأمره أن يتوجه إلى إفريقية ( تونس ) لقمع ثورة المرتدين والثأر لعقبة بن نافع ، وأمده بالمال والرجال .
خرج زهير على رأس جيش كبير ، حتى بلغ القيروان ( سنة 67 هـ ) وهناك التقى زهير بـ( كسيله ) وجيشه في معركة طاحنة ، أسفرت عن مقتل ( كسيله ) واندحار جيشه ، ودخل زهيراً مدينة القيروان ظافراً منتصراً ، ورأي فيها ملكاً عظيماً ورفاهية وبذخاً فخاف أن تميل نفسه إلى الحياة والترف والرفاهية ، أو أن تطمع إلى الحكم والولاية ، وهو إنما جاء للجهاد في سبيل الله ، ولما يبق أمامه إلا أن يرجع إلى ارض المشرق التي عاش فيها حياة الزهد والعبادة وقد رافقه في رجوعه جماعة من كبار المجاهدين .
وصادف أن أغارت سفن رومانية على شاطئ ( درنة ) وعاثت في المدينة قتلاً ونهباً وسبياً ، وتلقى زهير وأصحابه نبأ هذه الغارة وهم يسلكون طريق الصحراء الشرقية من برقة فلووا أعنة خيولهم نحو الساحل، ولما دنوا من المراكب المغيرة رآهم الأسرى الذين وقعوا في قبضة المغيرين ، وهم يقادون إلى المراكب مكرهين فاستغاثوا بهم ، فثارت حمية زهير ونادى أصحابه ، فنزلوا عليهم وهم العدد القليل ، واشتبكوا مع الروم المغيرين واستبسل زهير ورفاقه ، ولكن جموع الروم أحاطوا بهم من كل جانب فاستشهد زهير ورفاقه في ساحة المعركة الغير متكافئة ، وتمكن الروم من النجاة واقلعوا بمراكبهم يحملون الأسرى والغنائم ، ودفن زهير وصحبه في البقعة التي عرفت باسم ( جبانة الصحابة ) بمدينة درنة .
وهذا وقد شرفت البقعة التي ضمت رفات ( زهير بن قيس ) ورفاقه بمدينة درنة فكانت ومازالت مقصداً للزوار من سكان المدينة والقادمين إليها يتبركون بهؤلاء الشهداء الأبرار ولاسيما إنهم من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن التابعين له رضوان الله عليهم جميعاً ، وقد برز من بين رفاق زهير الذين استشهدوا معه مجاهدان كبيران هما : ( عبد الله بن بر القيسي ) ، و ( أبو منصور الفارسي ) .
وقد شيدت ( بجبانة درنة ) ثلاثة أضرحة وهي ذات قباب من الطراز المعروف في بناء اضرحة الأولياء والصالحين ، الضريح الأول ( لزهير بن قيس ) ويقع على يسار الداخل ، يليه الضريح الثاني وهو ( لعبدالله بن بر القيسي ) ، والثالث ضريح ( أبي منصور الفارسي ) يقع على يمين الداخل ، وبابه لجهة الغرب ، وبين هذه الأضرحة الثلاثة في مواجهة الداخل مبنى يشبه الحجرة الصغيرة ، قد أقيم الثلاثة على مدخل المغارة ، التي دفن فيها بقية الشهداء من رفاق ( زهير بن قيس ) ويبلغ عددهم نحو ( سبعين ) على أصح الروايات ، وقد تم تشييد هذه الأضرحة في القرن الحادي عشر الهجري .
التعريف بهؤلاء الشهداء : 1- زهير بن قيس : هو أبو شداد ، زهير بن قيس البلوي ، نسبة إلى ( بَلّى ) وهي فخذ من قضاعة ، ويسميه السكان ( سيدي زهيري ) ، ويترجم له الحافظ بن الأثير في كتابه ( أسد الغابة في معرفة الصحابة ) بقوله : ( زهير بن قيس البلوي ، قال أبو مأكولا ، : يقال إن له صحبة ، وهو جد زاهر بن قيس بن زهير بن قيس ، وكان زاهر والي برقة لهشام بن عبد الملك ، وقبره ببرقة ) ، وترجم له ابن حجر في كتابه ( الإصابة في تمييز الصحابة ) بقوله : ( زهير بن قيس البلوي ، قال ابن يونس يقال : إن له صحبة ، يكنى أبا شداد ، شهد فتح مصر وروي عن علقمة بن رمثة البلوي ، وروي عنه سويد بن قيس ، وقتله الروم ببرقة سنة ( 76 هـ ) . 2- أبو منصور الفارسي : هو أبو منصور ، ولقبه ( الفارسي ) يدل على أن أصله من الفرس ، ويسميه السكان ( سيدي بومنصور ) ، وقد ترجم له الحافظ بن عبد البر ، كتابه ( الاستيعاب في معرفة الأصحاب ) ترجمة موجزة قال : ( أبو منصور الفارسي ، له صحبة عند من ذكره من الصحابة ……… ) وترجم صاحب ( عالم الأيمان ) لأبي منصور الفارسي ، وعده فيمن دخل إفريقية ( تونس ) من صغار الصحابة ممن ولد في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يره ، وذكر انه كان فقيهاً قارئاً للقرآن متفنناً في العلم … الخ ). 3- عبد الله بن بر القيسي : يدل لقبه على انه من ( قيس عيلان ) أشهر القبائل المضرية .. ومن الراجح انه من التابعين ويسميه السكان ( سيدي الزوام ) وسبب التسمية هو وجود بيض نعام داخل قبره ، وهذه البيض يتمدد وقت الحر فيصدر صوتاً خاصاً يشبه الأنين أو الزفير . أما بقية الشهداء الذين دفنوا داخل المغارة في ( جبانة الصحابة ) ، والذين يبلغ عددهم نحو السبعين ، فالراجح أن أكثرهم أن لم يكونوا كلهم من التابعين الذين ساهموا في فتح بلاد المغرب . الأسر الأندلسية في مدينة درنة : نستطيع أن نحدد بداية مجيء ( الجماعات أو الأسر الأندلسية ) إلى ( درنة ) بأنها كانت قبل نهاية القرن العاشر للهجرة ، أي القرن السادس عشر للميلاد ، أي بعد استيلاء قبائل ( أولاد علي ) على الجزء الشرقي من إقليم برقة بفترة قصيرة ، وقد تم مجيء هذه الجماعات على دفعتين وعلى فترتين من الزمن ، فالدفعة الأولى تنحصر في مجيء جماعة قليلة ، خرجت من تونس قاصدة حج بيت الله الحرام وعند رجوعها من أراضي الحجاز نزلت بمدينة درنة وأقامت بها . أما مجيء الدفعة الثانية من الجماعات الاندلسية فقد حدده ( كوستانزو بيرنا ) بأنه كان سنــة
( 1637 م ، 1047 هـ ) وذلك حينما طلب ( موسى تغارين ) نائب ( قاسم باشا ) والي طرابلس ، طلب من ( يوسف – باي تونس ) ملتمساً منه أن يمده بجماعة من الاندلسيين المقيمين بتونس ليعمروا برقة التي تمتاز بخصوبة أرضها ، فاستجاب ( باي تونس ) لطلبه وجهز أربعة مراكب على ظهرها ( 800 مزارع ) جاءوا جميعاً إلى مدينة درنة ، واستقروا بها وشرعوا يزرعون الأرض ويجلبون المياه إليها ويقيمون مباني للسكن بزعامة ( موسى تغارين ) . وقد اشتهرت من الأسر الأندلسية بمدينة درنة بجانب ( أسرة عزوز ) ، ( وأسـرة المؤدب ) ( وأسرة الأمام ) ، ومن الأسر التي كانت تقيم بمدينة درنة ( أسرة زيتون ) ، ومن المحتمل أنها هاجرت إلى مصر أبان الغزو الإيطالي . هذا وهناك فرع من قبيلة ( الشواعر ) القاطنين بالصفة العليا من وادي درنة ( رأس الوادي ) يذكرون أن أصلهم من بلاد الأندلس وأن جدهم ( محمد ولد منصور الشاعري ) قدم إلى الجبل الأخضر بعد خروج العرب من الأندلس . درنة في العهد العثماني الأول : طرد العثمانيون ( فرسان القديس يوحنا ) من ( طرابلس ) سنة 957هـ ، 1551م وبذلك أصبحت ليبيا ولاية عثمانية ظلت قاصرة على طرابلس ونواحيها أما إقليم ( برقة ) فلم يخضع لولاة طرابلس الذين يعينهم السلطان العثماني إلا بعد فترة طويلة من تاريخ العهد العثماني . وازداد نشاط الأسر الأندلسية في استثمار مساحات كبيرة من الأرض الصالحة للزرع والغرس ، وفي جلب الماء إليها من العين التي سميت فيما بعد ( بعين البلاد ) كما نشطت في تشييد المباني السكنية . ولابد أن هناك جماعة من أبناء القبائل المجاورة من ( أولاد علي ) أو غيرهم قد استقروا بمدينة ( درنة ) بعد انتعاش الحياة فيها ، غير أن الأسر الأندلسية كانت صاحبة النفوذ وكانت تقوم بنشاط داخلي وخارجي ، ففي سنة 1048هـ ، 1638م ثار سكان مدينة ( بنغازي ) على الحامية العثمانية ،واستنجدوا بسكان مدينة ( درنة ) فانجدوهم وساعدوهم على محاصرة رجال الحامية العثمانية داخل حصنها حتى أنقذهم منها (( عثمان باشا الساقزلي .. الذي عين والياً على طرابلس سنة 1060هـ ،1560م في عهد السلطان ( محمد خان ) الرابع وقد تظاهر ( عثمان باشا الساقزلي ) ومنذ هذه الفترة في بداية حكمه بإقامة العدل وتخفيف الضرائب ثم غير اتجاهه الأول وانتهج أساليب القسوة والخديعة والطغيان وارتكب من الدناءة والفحش ما يتتره القلم عن ذكره وقد استمرت ولايته إلى سنة 1083هـ ، 1672م )) . فاستولى على بنغازي ، وقد كانت لهذه النجدة ( نجدة سكان درنة لإخوانهم سكان بنغازي ) أثرها فيما بعد إذ جهز ( عثمان باشا الساقزلي ) جملة قوامها جند من الأتراك والمرتزقة ، فاستولت على مدينة ( درنه ) وانتقم ممن ساهم في ثورة سكان مدينة بنغازي على الحامية العثمانية ، ومنذ ذلك الحين أصبحت درنة مدينة خاضعة للحكم العثماني ، فقد حدثنا ( العياشي .. وهو حاج مغربي تحدث عن مدينة درنة سنة 1072-1073هـ ، 1661-1662م في رحلته ) أن الاندلسيين الذين عمروا مدينة درنة ثاروا على أمير طرابلس ، فأخرجهم منها بعد وقعة قتل فيها مئات من أشرافهم ، ثم عادت إلى طاعته . المصلح الكبير ( محمد باي ) : هو ابن المرحوم محمد باي قرمنلي ، ينتمي إلى الأسرة القرمانلية التي قدمت إلى طرابلس الغرب من بلاد الأناضول بتركيا في العهد العثماني الأول وكان لهذه الأسرة نشاط معروف ونال أبناؤها الحظوة لدى ولاة طرابلس في ذلك العهد ، وأسندت إلى جماعة منهم وظائف إدارية وعسكرية حتى استطاع ( احمد باشا ) أن يستقل بحكم الولاية عن الدولة العثمانية ويؤسس لأسرته حكماً استمر قرناً وربع قرن من الزمان ، هذا وقد عين ( محمد باي ) أميراً ( والياً ) على درنة والجبل الأخضر حلفاً لوالده ( الحاج محمود باي ) الذي عينه ( عثمان باشا الساقزلي ) حاكماً على ( بنغازي والجبل الأخضر ودرنة ) في الثلث الأخير من القرن حادي عشر للهجرة ، أي النصف الثاني من القرن السابع عشر للميلاد ، أي في العهد العثماني الأول . واستمرت ولاية ( محمد باي ) إلى سنة (1110 هـ ، 1698 م ) ، ويسميه سكان درنة ( سيدي امحمد بَيْ ) ، وقد ازداد نمو مدينة درنة على يده ، حيث يذكره أهل درنة بالتقدير والاحترام وهو ليس حاكماً مصلحاً فحسب ، أو كأحد ( الدايات ) التي احتفظ بمنصبه مدة زائدة ، وإنما هو رجل ثري نشأ في أسيا الصغرى ، واستقر به المقام في مدينة درنة ، وإليه تنسب إصلاحات وأعمال هامة . ومن أكبر الأعمال التي أنشأها وأتمها في مدينة درنة في سنوات حكمه : 1- المسجد الكبير ، ويسمى ( المسجد العتيق ) ، أو ( جامع البلاد ) ، وقد تجلت فيه متانة البنيان ، ودقة الهندسة وجمال فن المعمار الإسلامي ، فقد سقف بـ( 42 قبة ) ذات أقواس هندسية ، تحملها ( 30 سارية ) من المرمر المصقول تحيط بها أركانه الأربعة ونصب به ( منبر من خشب السناج ) نقشت حواشيه وجوانبه بنقوش بديعة ، كما شيدت بجانبه مئذنة مثمنة الشكل ، يبلغ ارتفاعها نحو ( 20 متر ) وألحقت به حجرتان وركن للمواضيء ، ويبلغ طول المسجد نحو ( 29 متر ) وعرضه نحو ( 23 متر ) وله أربعة أبواب اثنان في الجانب الغربي والثالث في الجانب الجنوبي والرابع في الجانب الشمالي وهو يتسع لنحو ( 2000 مصلي ) وتقول الرواية المحلية أن المرحوم ( سيدي امحمد بي ) قد استعان في تشييد هذا المسجد باثنين من المهندسين جاءا إلى مدينة درنة من
( اسطنبول ) ، وأن أحداهما توفي في مدينة درنة ، ودفن في الحجرة ( الخلوة ) الملاصقة بالمئذنة ، هذا ومن محتويات هذا المسجد ، ساعة حائطية كبيرة ، ولكنها تعطلت أخيراً ، وشعرة منسوبة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي محفوظة في زجاجة داخل صندوق صغير وقد ظل سكن المدينة يتبركون بزيارتها في الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف من كل عام . 2- شق قنوات المياه ( الساقية ) : في الحديث عن مجيء الأسر الأندلسية ، واستقرارها بمدينة درنة أن أول أبناء هذه الأسر ، قد استغلوا جانباً من مياه مدينة درنة ، في سقي وري الحدائق والحقول ، والتي استصلحوها بالمدينة ، غير أن ذلك كان مقصوراً على نبع ( عين البلاد ) ، أما نبع ( عين بو منصور ) فقد ظلت مياهه تنساب في أعلى الوادي ، وهي التي وصفها العياشي بأنها ( بحار من الغدير في أعلى الوادي متصلة في صخور منقورة وبرك من صنعة الجبار بالماء مغمورة ) . وقد تحققت الاستفادة من هذه المياه النابعة الغزيرة ، في عهد ( محمد باي ) الذي نحت لها قنوات عبر الصخور ، وأقام جسراً كبيراً يصل بين ربوتين في المكان المسمى ( حلق بورويس ) في الوادي ، وبأعلى الجسر قناة يتدفق فيها الماء من ضفة إلى ضفة ، كما شق بقية القنوات على امتداد ضفتي الوادي حتى شملت جميع أنحاء المدينة وامتدت قنوات الساقية غرباً إلى ناحية ( عليوات بالرمان ) ، وشرقاً إلى أقصى ( بطحة المكاوي ) وشمالاً إلى شاطئ البحر ، تسقي وتروي كل ما تمر به من حقول وبساتين بماء عذب فياض ، هذا فضلاً عن أن كثيراً من سكان مدينة درنة ، وخاصة سكان حي المغار وحي بومنصور يستقون مياه شربهم من تلق القنوات ، الممتدة وسط مزارعهم ومساكنهم كما أن بعض المنحدرات التي تتدفق منها مياه الساقية ، قد استخدمت في إدارة أرجاء كبيرة ( طواحين ) لطحن الغلال ، بواسطة دواليب من الخشب كما أن للمصلح ( محمد باي ) أعمال أخرى وكذلك انه وقف الكثير من ماله وأراضيه وجعلها احباساً ووقفاً للصالح العام مثل الأرض التي جعلها وقفاً قرب جبانة الصحابة ، والتي جعلها مقبرة لدفن أموات المسلمين ، وسميت ( جبانة سيدي محمد بي ) . توفي ( محمد بي ) في اليوم الثاني عشر من شهر شعبان سنة 1110 هـ ، فبراير 1696م ودفن داخل القبة الملاصقة للجامع الكبير الذي بناه بمدينة درنه وقبره ل ايزال قائماً إلى الآن ولم يطمس منه إلا احد شاهديه وقد نقش تاريخ وفاته على قطعة من الحجر فوق باب القبة إلا أن بعض الكلمات قد طمست واستدللنا عليها بآثارها وببعض الحروف الباقية منها ، ونص هذه الكتابة هو ( قد انتقل إلى رحمة الله تعالى محمد القرمانلي بن محمود باي الثاني عشر شعبان عام 1110 هـ ) .. وكان قد شيد هذه القبة في حياته وأوصى أن يدفن فيها بعد وفاته كما جاء ذكر ذلك في وثيقة محررة في شهر صفر من سنة 1251هـ ، قدمها صورة منها صديق المؤلف الحاج الفاضل ( عبدالرحمن البي ) من ذرية المرحوم ( محمد باي ) . وهذه هي سيرة محمد باي وتلك هي أياديه البيضاء التي أسبغها على مدينة درنه والتي جعلته موضع تقدير واحترام وإجلال في نفوس أهلها وبوأته مكاناً رفيعا بين سائر الولاة والحكام والتي جاءت دليلاً قاطعاً على أن محمد بي قد اجتمعت فيه صفات الحاكم والمصلح الخبير فضلاً عن صفات الكرم والورع والتواضع رحمه الله وأثابه ثواب العاملين الصالحين ، أما عن ذريته رحمه الله بمدينة درنه فمنهم الآن أسرة المرحوم ( محمد خلوصي ) الذي عين مفتياً بدرنه بعد تخرجه من الجامعة الأزهرية والذي توفي سنة 1360هـ ، 1941م وتسمى ( عائلة البي ) ، كما أنها تسمى عائلة المفتي . وبعد هذه الفترة بدأ يتقلص الحكم العثماني الأول عن ليبيا ليجيء دور الأسرة القرمانلية لتبسط نفوذها على هذا الجزء من الأرض وهي الفترة التي أعقبتها ( تجريدة حبيب ) . تجريدة حبيب : التجريدة والجردة في اللغة الدارجة تعني النجدة والحملة ، أما التجريدة في الفصحى فهي من التجريد وهو القشر والنزع والتعرية ، والجردة بمعنى البرذعة الخلقة والخرقة البالية والصواب أن يقال ( جريدة ) لأن الجريدة تأتي بمعنى الجماعة من الخيل التي ليس بين فرسانها ماش على رجليه . هذا وتجريدة حبيب من أبرز القصص والحوادث التي يحفل بها تراثنا الشعبي فلقد تواترت أخبارها وتناقلت وقائعها السنة الرواة خلفاً عن سلف إذ هي تسجل وقائع صراع مرير استمر سنين طويلة بين قبيلتي كبيرتين هما ( الحرابى ، وأولاد علي ) أسفرت عن هزيمة الأخيرة وجلائها إلى أقصى حدود ليبيا الشرقية ، بعد أن بسطت نفوذها على جزء كبير من إقليم برقة الشرقي ، وسيطرت عليه فترة غير قصيرة من الزمن . وقد أضيفت ( التجريدة ) إلى ( حبيب ) وهو اسم بطل القصة والذي كان المنقذ لقومه وعشيرته من حياة القهر والهوان وعيش المذلة والصغار . ولتجريدة حبيب رواية راسخة لدى أهل البادية بصفة خاصة وأن الدارس لتراثنا الشعبي ليجد فيها مادة خصيبة تسترعي نظره وتغريه بمواصلة البحث والاستقصاء ، وسيلاحظ أن تجريدة حبيب في موضوعها وعناصرها تستمد أكثر حوادثها من الواقع إذ هي خالية من الإغراق في الخيالات المجنحة ، التي هي حلق بها القصاصون في قصص ( أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة ) وان كان يعتريها بعض عناصر المبالغة وشيء من الخلط والتشويش . ويرجح وقوع التجريدة حسب المقارنة والاستنتاج أنها حدثت في الربع الأول من القرن الثاني عشر للهجرة .. أوائل القرن الثامن عشر للميلاد أي في أواخر العهد العثماني وقبل بداية العهد القرمانلي الذي لم يتوطد في برقة إلا في سنة 1133هـ ، 1720 م وذلك بعد أن تولى أحمد باشا الحكم بتسع سنين . هذا وقبل أن نسرد أحداث ( تجريدة حبيب ) فأننا نمهد لها بنبذة عن ( الحرابى ، وأولاد علي ) فنقول : ينتسب كل من الحرابى وأولاد علي إلى السعادى ، نسبة إلى سعدة الزناتية بنت الزناتي خليفة التي تزوجها ( الذئب أبو الليل ) ، فولدت له أبناؤه ( برغوث وعقَّار وسلام ) وهؤلاء هم أصول قبائل السعادى التي تتفرع إلى كثير من البطون والعشائر ( فالحرابى ينتسبون إلى حرب أو محارب ) و( أولاد علي ينتسبون إلى غلي ) وهما أولاد العقَّار بن الذئب أبي الليل زعيم من رؤوس بني سليم الذين استوطنوا مابين سرت غرباً وحدود الإسكندرية شرقاً واستوطن إخوانهم بني هلال ناحية الغرب من النواحي طرابلس وتونس وهذا ما أثبتته السير وانساب القبائل ، وهو يدل على ان قبائل ( السعادى ) في برقة تنتمي ، إلى بني سليم دون سواهم والواقع أن كثيراً منها ينتمي إلى ( الهلاليين ) أي من قبائل ( هلال بن عامر بن صعصعة ) وهذا له ما يبرره من عدة وجوه .. الأول : أن القصص والأشعار التي بتناقلها أفراد هذه القبائل تدور كلها حول ( أبي زيد الهلالي ) وأبناء أخته ( شيحة ) مثل ( مرعي وذياب ويحيى ويونس وغانم ) وغيرهم من أبطال القصص الهلالية المعروفة .. والثاني هو أن جماعات من بني هلال قد استوطنت إقليم برقة أيام العبيديين ولها وقائع وحروب مع بعض القبائل المقيمة ببرقة من ( لواته وزناته ومزاته ) .حيث بقي ذكر أن فروع هاتين القبيلتين بصفة عامة ليست كلها من سلالة بني هلال وبني سليم بل تضم سلالات بربرية مثل لواته ومزاته وزناته ، التي سماها ابن خلدون والتي كانت تعمر هذه البقاع . نعود إلى قصة التجريدة .. فالحروب بين الحرابى وأولاد علي في تلك الفترة ترجع كما يذكر بعض الباحثين إلى ثارات قديمة نشأت بين الفريقين وقد انتصر ( الحرابى ) على أولاد علي وطردوهم من الجبل الأخضر وأجلوهم إلى بقاع مقفرة ومناطق مجدبة في أكثر السنين ، فأخذ هولاء يعدون العدة ويرتقبون الفرصة التي تمكنهم من استرجاع البقاع التي طردوا منها ، والتي تجود بالخصب والنماء فلما تمت لهم الغلبة توغلوا حتى ( رأس التراب ) الواقع غربي ( شحات ) بنحو عشرة كيلومترات أي أنهم بسطوا نفوذهم على ما يقرب من نصف مساحة الجبل الأخضر زيادة على المناطق الشرقية الشاسعة .
وما فتئ ( الحرابى ) يقاومون سيطرة ( أولاد علي ) ويتربصون بهم الدوائر ، وتقوم بين الفريقين مناوشات ومعارك وكثيراً ما يضطر ( الحرابى ) إلى الرضوخ والاستسلام بسبب تفرقهم ووقوف بعض قبائلهم موقف الحياد ثم ظهر رجل اجتمعت له صفات الزعامة بين قومه وعشيرته ، ذلك هو الشيخ ( عبد المولى الأبح ) الذي تبوأ مكان الصدارة وأصبح صاحب الكلمة المسموعة والرأي المتبع عند أكثر قبائل ( الحرابى ) ومن أبناء ( الشيخ عبد المولى ) كان حبيب بطل التجريدة . هذا وتجئ البوادر الأولى ( لتجريدة حبيب ) بذكر واقعة اقتحم فيها الحرابى منتجعاً لأولاد علي بالجبل الأخضر قبيل الفجر ذات يوم وقتلوا كل من سدت في وجهة المنافذ للهرب من الرجال وغنموا ماشيتهم ولم يبقى بالمنتجع غير عدد من الأطفال تبنى الشيخ ( عبد المولى الأبح ) أحدهم واسمه ( النعيعيس ) وجعله كواحد من أبنائه . نشأ النعيعيس هذا ، وشب في بيت ( الشيخ عبد المولى ) لكنه لم ينس ما حل بقومه وأهله من تشريد ، إذ انه كان في سن المراهقة عند غارة ( الحرابى ) على منتجع قبيلته ، وأضمر فـي نفسه الانتقام وانتهز فرصة في يوم خلا فيه بأحد أبناء ( الشيخ عبد المولى ) فقتلـه ، ووارى جثته في التراب وأخفى لباسه الملطخ بالدماء داخل برذعة حمار ، ولم يخطر ببال الشيخ عبد المولى ولا احد من عشيرته أن النعيعيس يقتل أخاه ، وفقد الأمل في العثور على ابن الشيـخ عبد المولى فقد يكون ضل طريق عودته إلى المنتجع وتاه وسط الشعاب والوديان فافترســه ذئب أو ضبع غير أن الجريمة المدبرة ما لبثت أن ظهرت معالمها واضحة للعيان فقد بـرزت ملابس القتيل من خرق في البرذعة صدفة من غير قصد ، وعرف الشيخ عبد المولــى أن النعيعيس هو قاتل ابنه ولكنه لم يقتص منه وأبت له شهامته أن يسفك له دماً فقد تبناه وعـاش فيحمايته ، وإنما طلب منه أن يرحل بعيداً عن بيته ودياره ، حتى لا يتعرض للقتل من قبـل أحد أخوة القتيل أو من أبناء قبيلته .
غادر ( النعيعيس ) بيت ( الشيخ عبد المولى الأبح ) ونفسه لا تزال تحتدم غيظاً وحنقاً على الشيخ عبد المولى وعشيرته ، لم يهدئ من ثائرتها قتله لابن الشيخ عبد المولى ولا شهامة أب القتيل في الصفح عنه وصمم في هذه المرة على الانتقام من الشيخ عبد المولى نفسه ، إذ هو أكبر رؤوس ( الحرابى ) وصاحب الرأي والتدبير وبدأ في تنفيذ خطته بالاتفاق مع جماعة من شيوخ ( أولاد علي ) فوشوا بالشيخ عبد المولى عند حاكم درنة في ذلك الوقت ( الذي لم يذكر رواة التجريدة اسمه ولا أصله ويجوز أن يكون تركياً من بقايا حكام العهد العثماني الأول ) وهو بدوره استدعى الشيخ عبد المولى وقبض عليه وسجنه مكبلاً بالحديد بجوار سور المدينة ، وتقول الرواية أن ولدين من أبناء الشيخ عبد المولى تمكنا من إنقاذ والدهما إذ حفرا نفقاً سرياً نفذا منه إلى السجن ووجدا اباهما في ثقل من الحديد لم يستطيعا نزعه ، فاحضرا ثلاثة من الخيل وحملا أباهما على احديهما ووضعا أحد ثقلي الحديد على حصان عن يمينه والثقل الأخر على حصان عن يساره وتسلل الجميع لائذين بالفرار .
غير أن نبأ فرارهم انكشف قد انكشف ، وخرج القوم وفي مقدمتهم ( النعيعيس ) يقتفون أثرهم ، وما لبثوا أن لاحت لهم ثلاثة من الخيل ، تجد في سيرها غربي مدينة درنه فلحقوا بهم مسرعين .
ولما علم الشيخ عبد المولى أن القوم سيدركونه لا محالة ، طلب من ولديه أن ينزلاه ويخفياه بين أشجار الغابة ، ويفرا من وجوه اللاحقين ، ولاحظ النعيعيس سرعة انطلاق الخيل المفاجئة ، فأخبر الجماعة بأن الخيل قد ألقت الحمل الذي كانت تحمله ، وأن الحمل الملقى هو الشيخ عبد المولى بثقل قيوده ، وانطلقت الجماعة تبحث عن الشيخ عبد المولى ، وعندما رأي الشيخ عبد المولى النعيعيس أطمأن إليه وناداه معتقداً أنه سيرعى الجميل ، ويجزي الإحسان بالإحسان ، ولكن النعيعيس حين سمع نداء الشيخ عبد المولى ورآه مكبلاً بالحدي صاح في الجماعة أن يأخذوه أسيراً إلى قصر الحاكم بدرنه ، وما أ، أحضر الشيخ عبد المولى أمام الحاكم حتى أمر بقتله في الحال ، فقطعت رأسه ونصبت أمام القصر عدة أيام ، ثم أعيدت إلى الجثة التي دفنت بجانب سور المدينة كما تذكر الرواية . وقد كان لمقتل ( الشيخ عبد المولى ) أثره البالغ في نفوس ( الحرابى ) إذ فقدوا بموته أعظم شيوخهم نفوذاً ورأياً وشهامة .
وتمضي الرواية قائلة : وكان من بين أبناء ( الشيخ عبد المولى ) ابن اسمه ( حبيب ) نشأ لصاً فاتكاً ، يسطو على المواشي ويعترض طريق المارة ، غير أنه حين سمع نعي أبيه فكر في مصيره ، وأيقن أن الأعداء سيقتلونه لا محالة ، ومن هنا أقلع عن مسلكه الخاطئ ، ليسلك طريق الجد ، ويتأهب للثأر لأبيه ولكرامة قومه وعشيرته . وسمع عنه شيوخ ( أولاد علي ) فبعثوا جماعة من الفرسان يتعقبونه ، ليقتلوه ويأتمنوا جانبه ، ولما علم ( حبيب ) بقدومهم ، وإنهم جادون في البحث عنه ، اتخذ لنفسه مكاناً قذراً متظاهراً بالجنون والبله ، وحين عثروا عليه عرفوه ولكنهم استقذروا منه ، ولما سلموا عليه لم يرد السلام ولم يأبه بهم ، بل بقي جالساً في مكانه ، يأكل العشب بين الأقذار ، فقال بعضهم لبعض ، إن هذا أبله وعيب أن يقال عنا إن قتلنا شخصاً معتوهاً وتركوه جالساً في مكانه ، وقفلوا راجعين . وبدأ حبيب يفكر في تدبير وسيلة للأخذ بثأر أبيه ، ورفع الظلم عن قومه فالتجأ إلى أحد أصدقاء والده ، الذي يدعى الشيخ ( يونس القرّي ) شيخ قبيلة ( العوامّة ) في ذلك الوقت ، يستشيره ويسترشد برأيه ، فأشار عليه الشيخ ( يونس القري ) أن يسافر إلى حاكم طرابلس ، ويشكو إليه ما حل بقومه من ضيم واضطهاد ، وأن يلتمس منه مساندته في دفع الظلم عن أهله وعشيرته ، وأعطاه قدراً كبيراً من الذهب ، يستعين به على تحقيق هذا الغرض . سافر حبيب قاصدا طرابلس وهي رحلة طويلة وشاقة محفوفة بالمخاطر ، ويفهم من الرواية أن ( حبيب ) سافر في رحلته إلى طرابلس ممتطياً فرسه ، ولكن يبعد أن يسلك تلك القفار الشاسعة وحده ، ويطوي تلك الصحراء التي يظل فيها القطا من غير زار ولا دليل ، ولابد أنه سافر في رفقة أحدى القوافل ، التي كانت تسلك الصحراء الغربية للتجارة . ومرّ حبيب في طريق سفره بمدينة ( بنغازي ) ، وتقول الرواية : أنه لما وصل لبنغازي احتاج إلى نعل لفرسه ، ومكث يومين يتردد على أحد الحدادين هناك ، يجيء في الصباح ويطل واقفاً حتى الظهيرة ، وحين سأله الحداد عن حاجته أجابه : بأن فرسه حافية وليس لديه نقود يدفعها ثمناً لتنعيلها وسخر منه الحداد وقال متهكماً : أتريد تنعيلاً كاملاً أم نصف تنعيل ؟ ولكن حبيب رد عليه ببيتين من الشعر الشعبي شاكراً حسن صنيعه مادحاً سعة جوده وكرمه فقال : بالصدر مانقرضوك أو بالقفل نمشي رضايا وانت كيف معطن العد اللي يجوك يمشوا روايا ( الصدر هو مقدم النعل وفي اصطلاح الليبيين هو نعل الرجلين الأماميتين للخيل ، والقفل هو نعل أرجلها الأربعة .. ومعطن العد هو البئر الذي له مادة جارية .. فيقول حبيب : لا نذمك بصنع الصدر وبالقفل نرجع راضيين ، وأنت مثل بئر غزيرة الماء يرتوي منها كل وارد .. فقد شبهه بالبئر الغزيرة الماء في الجود والعطاء .) فأثار المدح النخوة في نفس الحداد ، ونعل له فرسه بدون ثمن ، واستأنف حبيب سفره حتى بلغ مدينة ( طرابلس ) وهناك حضر أمام حاكمها واسمه ( محمود ) كما تقول الرواية ، وشرح له ما جرى له ولقومه وانشده بيتين من الشعر هما : نا بوي يا بي محمود مقتول ظلم ما له جناية مير وطن لكم محسود .. دلوه ناساً رعايا ( يقول أن أبي يا محمود بي قتل ظلما من غير ذنب جناه ، أنه أمير في وطنه وبين قومه ولكنه كان محسوداً تواطأ على قتله أناس رعاع . ) فرق له حاكم طرابلس ووعده بنصرته وأهدى له ( خاتم المشيخة ) وهي من التقاليد التي كان يتبعها الحكام والولاة في تعيين شيخ لقبيلة أو رئيس أو زعيم استماله لجانبه ومصانعة لقومه وعشيرته أو يمنحوه برنساً من الجوخ ( الملف ) يسمى ( برنوس الشوخة ) أو يعطونه ختماً يسمى ( طابع الشوخة ) ، ومن الأهازيج الشعبية التي كان يرددها ويتغنى بها الناس في تمجيد قبائلهم وعشارئرهم : والشوخة والطابع لنا .. ساس عقرّ نحنا مازلنا ( ومعناه السيادة لنا واطبعها ونحن لا زلنا ركناً متيناً .) وخيّر ( محمود بي ) حبيباً أن تكون النجدة بحرية أو برية فاختار حبيب الثانية وجهز له حاكم طرابلس جيشاً كبيراً معظم رجاله من أبناء ( تاجوراء ومصراته وزليتن ) . نهض الجيش وفي مقدمته ( حبيب ) متجهاً نحو الشق الشرقي يطوي المسافات ويجتاز الصحراء ، لما أصبح على مسافة غير بعيدة من المكان المقصود بادر ( حبيب ) وسبق الجيش إلى مضارب ( أولاد علي ) بالجبل الأخضر وتسلل متنكراً في زي سائل يستجدي الإحسان ويطوف البيوت حتى وصل إلى بيت الشيخ ( يونس القرّي ) صديق والده وتعارف الاثنان ، وبالغ حبيب في إخفاء شخصه خوفاً على الشيخ يونس القرّي أن يلحقه أذى ودار بين الاثنين حوار في أبيات من الشعر (( وهذا الحديث مذكور في ( السبك الحديث في تاريخ برقة القديم ) تأليف الشيخ السنوسي محمد الغزالي وقد دارت بينهما محاورة شعرية فيما يتطلبه من الاحتياط ورسم الخطة السليمة لتنفيذ الهجوم )) حيث حددا الوقت والمكان المناسبين لهجوم الجيش القادم وغادر ( الشيخ يونس القرّي ) مضارب ( أولاد علي ) بأهله وإبله قبل حلول موعد الهجوم وما أن حلت الليلة الموعودة حتى كان جيش النجدة ( التجريدة ) على أهبة الغارة والهجوم فلم يشعر القوم إلا بسنابك الخيل تقتحم منتجعاتهم قبل طلوع الفجر وعجزوا عن المقاومة ولم يجدوا وسيلة إلا للفرار وتوسطت خيول الجيش المهاجم جموع ( أولاد علي ) تقتل وتأسر من انسد في وجوههم طريق الخلاص وتلاحق الفارين وبذلك تم إجلاء قبائل ( أولاد علي ) عن جميع ما استولوا عليه من ارض وديار وتقهقروا إلى ما وراء العقبة الكبرى ( حجاج السلوم ) غير شراذم قليلة اعتصمت ببعض الجهات القصية .
لم يبق أمام حبيب بعد هذه الهزيمة الساحقة التي لحقت بأعدائه إلا أمنية واحدة هي العثور على ( النعيعيس ) حياً أو ميتاً وقد وعد من ياتيه بإنه سيصبح شيخ قبائل ( الحرابى ) فكان الحائز على هذا الشرف هو ( غيث ) أخو ( حبيب ) الذي تمكن من قتل ( النعيعيس ) وحز رأسه وحمله في مخلاة فرسه وحين رمى به أمام أخيه ( حبيب ) قام هذا وعانقه وقدم إليه ( ختم المشيخة ) الذي جاء به من ( طرابلس ) وبذلك انحصرت المشيخة في ( غيث ) وذريته من بعده ، كما يقول رواة التجريدة . أما رجال النجدة من أبناء ( تاجوراء ومصراته وزليتن ) فتذكر الرواية أن شيوخهم ورؤسائهم طلبوا من ( حبيب ) بعد هزيمة ( أولاد علي ) وإجلائهم عن هذه البقاع أن يمنحهم مدينة ( درنه ) تكون لهم سكناً ومستقراً ، ولبى ( حبيب ) طلبهم وزادهم أراض مجاورة لموقع المدينة عينها لهم وعقد مجلساً ضم زعماء الجانبين وحرروا وثيقة على رق ( جلد الغزال )وعينوا فيها الحدود والجهات التي تنتمي إليها ملكيتهم لهذه النواحي . استوطن أبناء ( تاجوراء ومصراته وزليتن ) مدينة ( درنه ) واستقدموا إليها أسرهم وعائلاتهم واستقروا بجانب إخوانهم من ( العائلات الأندلسية ) وغيرهم ممن سبقهم على الاستقرار بهذه المدينة وبذلك ازداد عدد سكان مدينة درنه وازداد عمرانها كما كثرت حدائق فواكهها واتسعت مساحات حقولها حتى إن بعض القادمين الجدد قد اتخذوا ( السواني ) المسماة عندا ( بئر الجبّاد ) لري الأراضي التي استصلحوها وهي وسائل إلي المعروفة عندهم والتي لا تزال باقية نراها في كثير من حقول الزراعة في الشق الغربي .
درنة في العهد القرمانلي : (( نسبة إلى قرمان ، اسم مقاطعة بالاناضول بتركيا آسيا والنسبة إليها ( قرمانلي ) وبالتركية قرماني أو ( قرمنلي ) )) . [font='Arabic Transparent']بدأ حكم الأسرة القرمانلية في ليبيا منذ سنة 1123هـ ، 1711م وحين